صنعاء في عيون سعودي- رحلة بين الجمال والخطر والآثار
المؤلف: عزيزة المانع08.06.2025

علي الأمير، قامة أدبية سعودية تتلألأ في سماء الشعر والنثر، قضى ردحًا من الزمن في ربوع اليمن، متنقلاً بين أسوار جامعة صنعاء كطالب علم، ثم مرتحلاً كمعلم مبعوث من المملكة، ليضيء دروب المعرفة في مدارسها. خلال هذه الحقبة الزمنية، أتيحت له فرصة ذهبية للغوص في أعماق اليمن، واستكشاف تفاصيلها الدقيقة وخباياها المتنوعة. وقد أثمرت هذه التجربة الفريدة عن كتاب صدر هذا العام بعنوان "صنعاء، تأويل الغيم، وسورات النرجس"، والذي ضمنه باقة من المشاهدات الثرية والخبرات العميقة التي اكتسبها هناك.
يستهل المؤلف كتابه بمقدمة يغلفها الأسى العميق لما آل إليه حال اليمنيين من وضع مأساوي، ويصف معاناتهم الشديدة من وطأة الفتن المستعرة، وقسوة الاقتتال الدائر بينهم، فيقول بتهكم مرير: "صاروا يتبجحون بانتصاراتهم المزعومة على إخوتهم وأهلهم في صنعاء وعدن وتعز وسائر المحافظات اليمنية". ومع ذلك، يؤكد المؤلف أن جوهر كتابه يتجاوز رصد أحداث الحرب الدائرة، وينصب تركيزه على استحضار صور صنعاء في الماضي الجميل، صنعاء قبل أن تدمرها الحرب.
يمتاز الكتاب بمتعة فائقة وأسلوب بديع أخاذ، وهو أقرب ما يكون إلى أدب الرحلات الشيقة. فالمؤلف يأخذ بيدك ليصحبك معه في رحلة ممتعة، وفي كل فصل من فصول الكتاب تخوض معه مغامرة فريدة، تتسارع خلالها نبضات قلبك بين مشاعر الخوف الممزوجة بالترقب، أو مشاعر الأنس الغامر والطرب المتدفق.
في أحد فصول الكتاب، يرافقك المؤلف في رحلته البرية المدهشة من جيزان إلى صنعاء، ليجعلك شريكًا له في الاستمتاع بجمال الطبيعة الساحر. فالسيارة تتمايل برشاقة وهي تتسلق جبال العقبة الشاهقة، تلفها سحب الضباب الرقيقة، ثم تنحدر بلطف لتلاقي شلالات "عين علي" المتدفقة، وتحيط بها أشجار البن العملاقة التي تنشر أريجها الفواح في الأرجاء. ولكن هذا الجمال الطبيعي الخلاب سرعان ما تشوبه بواعث القلق نتيجة لغياب الأمن الذي يعاني منه اليمن، فقطع الطريق في اليمن ليلًا بدون سلاح يمثل مغامرة محفوفة بالمخاطر الجمة.
وكما تشاطر المؤلف الإحساس بجمال الطريق وروعة المناظر، لا بد لك أن تشاركه مشاعر الفزع التي انغرست كالأشواك في حلقه عندما تعرض إطار السيارة للانثقاب أثناء عبوره الجبل، حيث يطل من الأسفل وادٍ مخيف يحمل اسم "وادي شرس". تخيل سيارة معطلة في جنح الليل، في مكان يعج بقطاع الطرق، وبدون سلاح للدفاع عن النفس، ولا خبرة في تغيير الإطار، وفي داخل السيارة زوجة يشتد بها الرعب حتى تكاد تفقد وعيها!
في فصل آخر، يصحبك المؤلف في جولة إلى مدينة "أرحب" لتشاهد أعجب سوق قد تعرفه المدن، سوق السلاح المفتوحة على مصراعيها للجميع، حيث يمكنك في هذا السوق أن تشتري مختلف أنواع الأسلحة النارية، كالرشاشات والألغام والقنابل والدبابات، وبنفس السهولة التي تشتري بها زجاجات المياه المعدنية. وفي أرحب أيضًا، يمكنك زيارة بعض المناطق الأثرية العريقة مثل "صرواح"، التي تحتضن آثارًا لمدينة مدر القديمة بمعابدها الأثرية التي يُقال إنها تعود إلى حقبة ما قبل الميلاد. ولا تقتصر الآثار التاريخية على منطقة أرحب وحدها، فمنطقة إب في اليمن تزخر أيضًا بآثار تعود إلى حضارات قديمة، مثل آثار مملكة حمير في مدينة ظفار، حيث يقع متحف ظفار الذي يسرد تاريخ تلك الدولة العريقة.
ومن ظفار، يمكنك الانتقال إلى مدينة جبلة، التي اكتسبت شهرتها من كونها كانت عاصمة للدولة الصليحية في القرن الخامس الهجري، وكانت تحكمها امرأة فذة عرفها التاريخ باسم أروى بنت أحمد الصليحي، والتي استمرت في الحكم لمدة ثلاثة وخمسين عامًا!
اليمن تبقى شبه مجهولة للكثيرين منا، فغالبًا ما تنحصر معرفتنا بها في صورة اليمني البائع أو العامل الذي يسعى جاهدًا لكسب رزقه في بلادنا، ولم يكن هناك ما يشجعنا على القراءة عنها والتعمق في تفاصيلها لاستكشاف أسرار الحياة فيها. ولكن هذا الكتاب يضع اليمن بكل تفاصيل الحياة داخلها أمام أعين القارئ، ويقدمها بأسلوب سلس يجمع بين المعرفة والمتعة والترفيه.